لقد نجح بعض الفتيان في قلب شجرة التعاليم الإسلامية فجعلوا الفروع الخفيفة جذوعها أو جذورا، وجعلوا الأصول المهمة أوراقا تتساقط مع الرياح!. وشرف الإسلام أنه يبني النفس على قاعدة «قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها» وأنه يربط الاستخلاف في الأرض بمبدأ «الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ****وأنا أتوجه إلى أمراء الجماعات الدينية الأكارم، والى الأوصياء الكبار على تراث السلف أن يراجعوا أنفسهم كي يهتموا بأمرين: أولهما: زيادة التدبر لآيات القرآن الكريم. وآخرهما: توثيق الروابط بين الأحاديث الشريفة ودلالات القرآن القريبة والبعيدة، فلن تقوم دراسة إسلامية مكتملة ومجدية إلا بالأمرين معا..

بصوت 17 قارئ

الخميس، 27 مايو 2010

تبـّا لمثقفين يرفعون المجرور وأكاديميين ينصبون الفاعل!



كتبت قبل فترة مقالا هجائيا بحق الحكام العرب بعنوان "متى يتعلم الحكام العرب اللغة العربية؟" وبعدها بمدة كتبت مقالاً نقدياًً بحق مدرسي اللغة العربية بعنوان "مدرسو اللغة العربية ألد أعدائها"، فثارت ثائرة بعضهم دون أن يعلموا أن مقالي إياه هو أول الغيث، فالخير للأمام إن شاء الله.

واليوم لا بد من فضح بعض مثقفينا وكتابنا المزعومين الذين يضربون بالنحو عرض الحائط، ولا يكلفون أنفسهم عناء تعلم أبسط قواعد اللغة.

ولنتساءل أولا: هل يمكن أن يكون المثقف مثقفا، والأكاديمي أكاديميا إذا كان يرفع المنصوب ويجر الفاعل وينصب المجرور؟ أليست اللغة وعاء الفكر؟ متى يعلم المثقف أو الإعلامي أو الأكاديمي العربي أن الحديث بلغة عربية هزيلة نحوا وصرفا يقلل كثيرا جدا من قيمة المتحدث، لا بل يجعله مهزلة أمام جمهوره؟ صحيح أن معظم حكامنا يتقنون لغة الضاد كما أتقن أنا اللغة الهيروغليفية، لكن ذلك يجب أن لا يكون بأي حال من الأحوال عذرا للمثقفين والأكاديميين والمتحدثين العرب الذين يظهرون في وسائل الإعلام، أو يلقون محاضرات أو يشاركون في مؤتمرات.

حضرت قبل فترة محاضرة لفنانة تشكيلية عربية، وقد قامت بتقديمها للحضور أكاديمية عربية تحمل شهادة الدكتوراه، وتدّرس في إحدى الجامعات العربية. وكم شعرت بالإحراج وأنا أستمع إلى تلك الدكتورة وهي تقترف مجازر لغوية أثناء تقديمها للفنانة التشكيلية. فقد نظرت في وجوه بعض الحضور وقد امتلأت سخرية وتهكما على تلك الدكتورة وهي تتفنن بالإساءة إلى اللغة العربية، فمرة ترفع المبتدأ وتنصب الخبر، ومرة تجر المبتدأ والخبر معا، ومرة تجر الخبر وتنصب المبتدأ. ومرة تنصب المجرور. ومرة تجر الفاعل، ومرة تكسر الفعل المضارع، ومرة تضم الفعل الماضي بخفة متناهية دون أن يرمش لها جفن خجلاً أو ترددا، ناهيك عن لفظ بعض الكلمات كما لو كانت سنسكريتية. فقد كانت "الدكتورة" تطحن اللغة العربية بثقة واسترسال عز نظيره. يا الله ألا تعرف تلك الدكتورة أن أحرف الجر تجر الكلمة التي تليها إلا عندما تكون ممنوعة من الصرف فتـُجر بالفتح عوضا عن الكسر؟ ألا تعرف أن "إن وأخواتها" تنصب الاسم، وترفع الخبر؟ ألا تعرف قاعدة "كان وأخواتها" البسيطة جدا التي ترفع المبتدأ وتنصب الخبر، أي عكس قاعدة إن وأخواتها؟ ألا تعرف أن الفعل الماضي يكون دائما مفتوحا، والمضارع مضموما، والأمر ساكنا؟ إن هذه القواعد البسيطة لا يستغرق تعلمها منا أكثر من سويعات. لكن مع ذلك، فلا يتجثم مثقفونا عناء تعلمها كي يحترموا ذواتهم، ويجنبوا أنفسهم سخرية المستمعين. ألم يقل أحد الطلاب أو الطالبات لمدرستهم إياها إنك جاهلة بأبسط قواعد اللغة يا دكتورة؟ ألا تخجلين من نفسك؟ كيف تقبلين أن تعلمي الطلاب بلغة عربية مضحكة؟ ألا تعلمين أن المعلومات المقدمة بلغة جيدة تصل إلى المتلقين بطريقة أفضل بكثير؟ ألا تعلمين أن الأفكار الجيدة لا بد أن تـُقال بلغة حسنة، وإلا فقدت الكثير من قيمتها وهيبتها؟

وقبل فترة استمعت إلى محاضرة لرئيس مكتبة عربية شهيرة جدا، فراح ذلك "الفطحل" يتحدث في محاضرة له بلغة عربية ليست ركيكة فحسب بل مفعمة بالأخطاء اللغوية الرهيبة جدا، مثله في ذلك مثل الدكتورة آنفة الذكر. فتساءلت: كيف يريد منا ذلك البروفسور الذي تواجهنا صوره في معظم التلفزيونات والصحف والمجلات أن نحترمه إذا كان غير متقن لأبجديات اللغة؟ كيف يكتب مقالاته التي ينشرها في الصحافة العربية؟ ألا يخجل أن يصحح له المدققون اللغويون كل كلمة يكتبها؟ تبا لك أيها البروفسور المزعوم!

وفي السياق ذاته، حضرت منذ مدة مؤتمرا شارك فيه "نخبة" من المثقفين والكتاب والإعلاميين والخبراء، فواجهت المشكلة ذاتها إلى حد أن أحد المفكرين خرج غاضبا من الجلسة مطالبا المشاركين أن يحترموا اللغة العربية، فهذا خبير استراتيجي "عظيم" لا يميز المنصوب من المجرور، ولا الفاعل من المفعول، ناهيك عن أنه كان يرفع معظم الكلمات بخفة عجيبة، وكأنه كان يحاول إقناعنا بأن كل الكلمات العربية يمكن أن تكون مضمومة. ثم لحق به كاتب عربي مشهور فراح ينصب ويجر ويرفع على هواه. وكم تمنيت لو أنه لفظ رقما واحدا من الأرقام التي استشهد بها في المؤتمر بطريقة صحيحة، فكان يؤنث المؤنث، ويذكــّر المُذكر على عكس القاعدة اللغوية، كأن يقول مثلاً: جاء خمس رجال، وجاءت خمسة نساء، والعكس صحيح طبعا. وحدث ولا حرج عن تفننه في التبشيع بالممنوع من الصرف، فكل الكلمات عنده يمكن جرها بالكسرة، وكل الكلمات يمكن تنوينها بغض النظر عن كونها ممنوعة من الصرف أو لا.

هل سمعتم يوما كاتبا أو أكاديميا أو إعلاميا بريطانيا أو أمريكيا يستخدم are محل is أو am أو ينسى إضافة ing للفعل المضارع؟ بالطبع لا، فهذه قواعد بسيطة جدا لا يمكن أن ينتهكها حتى تلاميذ المدارس في الغرب، فما بالك بالمثقفين والأكاديميين. أما عندنا فيمكن أن ترى أكاديميا أو كاتبا عربيا يخطئ في تشكيل جملة بسيطة للغاية من قبيل: "ذهب الطالب إلى المدرسة"، فبدلا من رفع الطالب، يكسره أو يفتحه. أما المدرسة فتكون محظوظة لو لم تتعرض للنصب. كله عند العرب صابون لغويا.

وذات مرة حضرت مؤتمرا، فقام مقدم الحفل بتقديم سيدة عربية تحمل عشرات الألقاب والمهمات، لكنها عندما بدأت بالحديث استغرب الكثيرون تدني مستواها اللغوي إلى حد أنني اعتقدت للحظات أنها كانت تقدم لنا مجموعة من الأخطاء اللغوية الفادحة لا أكثر ولا أقل. وكم شعر الجمهور بالغبطة عندما تعثرت خطاها وهي تنزل من المنصة فسقطت على الأرض، فهمس الجالس إلى جانبي ساخرا: هذا جزاؤك على الإجرام بحق أحرف الجر أيتها الأمية!.

والغريب في الأمر أن "المثقفين والأكاديميين" الذين يرتكبون جرائم بشعة بحق اللغة العربية يتباهون في الآن ذاته وهم يتحدثون أمام الجمهور بلغاتهم الأجنبية وخاصة الانجليزية، فينطقونها دون أية أخطاء لفظية أو قواعدية. وكم أشعر بحزن شديد عندما أقابل في بعض الندوات كوادر وقيادات عليا من مختلف المجالات وهم يعتذرون عن تدني مستوى لغتهم العربية، ثم يطلبون منك أن تستمع إليهم وهم يتحدثون لغة أجنبية.

لو كنت مكان الجامعات العربية لأجريت امتحان لغة عربية لكل الأساتذة الجدد في كل الاختصاصات نظرا لأميتهم اللغوية. أما بخصوص الأساتذة القدامى فعليهم بدورهم أن يخضعوا لامتحان لغة حتى لو اشتعل شعرهم شيبا. وكل من يرسب عليه التوقف عن التدريس حتى يتعلم أبجديات اللغة.

لقد أثبتت دراسة أكاديمية حديثة بأن ضيوف البرامج الحوارية في التلفزيونات العربية يكونون أكثر تأثيرا وإقناعا عندما يستخدمون اللغة العربية الفصحى. كما أثبتت أيضا أن المشاهدين يفضلون المتحدثين الفصحاء أكثر من المتحدثين الذين يستخدمون العامية أو اللغة العربية المكسرة، حتى لو لم يكن أولئك المشاهدون يعرفون قواعد اللغة العربية، لا بل إنهم يحترمون مستخدمي الفصحى كثيرا، بينما يميلون إلى الاستخفاف بالضيوف الذين يلحنون، ويستهزئون بهم.

سحقاً لمثقفين وأكاديميين يجهلون ألف باء اللغة العربية! والله عيب عليكم! استحوا على شيبتكم!

الجمعة، 7 مايو 2010

الشيخ الغزالي كما عرفته د. يوسف القرضاوي


الشيخ الغزالي كما عرفته

لا أدري كيف أستطيع أن أحدثكم عن شيخنا الغزالي، وكيف أستطيع أن ألخص مسيرة نصف قرن، إلا كما لو أراد الإنسان أن يضع البحر في قارورة.

ورغم أن بيني وبين الشيخ الغزالي تسع سنوات فقط، فأنا أقول: "شيخنا الغزالي"؛ حيث إنني تتلمذت على يديه، فعرفته أولا قارئا لمقالاته، ثم لكتبه، بدءًا من "الإسلام والأوضاع الاقتصادية"، ثم "الإسلام والمناهج الاشتراكية".

حينما قرأت للغزالي وجدت أديبا من طراز ممتاز، يتكلم عن الإسلام بقلم بليغ، وما كنت أعلم أنه شيخ أزهري؛ فمعلوماتي أن المشايخ لهم أسلوب وموضوعات غير هذه الموضوعات، وروح غير هذه الروح.

ولم يقدر لي أن ألقاه إلا في سجن طنطا سنة 1948 ومن هذا الوقت ظللنا مع الشيخ الغزالي، وكان شهر رمضان، فاستمتعنا به وراءه، يصلي بنا ويقرأ القرآن الذي كان يحفظه حفظا جيدا، وكان يقرأ ختمتين: ختمة يقرؤها في صلاة التراويح، وأخرى في الصلوات الأخرى.

وحينما خرجنا من المعتقل ظللنا على صلة دائمة بالشيخ؛ حيث يدعونا إلى بيته، نأكل من جيد طعامه، ونسمع من جيد كلامه.. هذا لبطوننا وذلك لعقولنا، فتعلمنا منه محاضرا وتعلمنا منه مدرسا ومتحدثا وكاتبا.

كان الشيخ الغزالي رجل دعوة من الطراز الأول، كانت الدعوة إلى الإسلام لحمته وسداه ومصبحه وممساه وحلم ليله وشغل نهاره، عاش للدعوة، ماضيه وحاضره ومستقبله للدعوة فحين يكتب أو يخطب أو يدرس فكله للدعوة، وإذا هاجم فللدعوة، وإذا دافع فعن الدعوة وإذا انتقد فللدعوة.

وكانت أدوات الدعوة عنده متيسرة ومتوافرة أولها القرآن الكريم، فكان يحفظ القرآن، كأنه أمامه سطر واحد، فكان يلتقط منه المعاني كأنه صفحة بين يديه، فهو يعتبره المصدر الأول للداعية ويجب أن يحكم على كل مصدر، يحكم على السنة ويحكم على القياس والإجماع ويحكم على كل شيء؛ فهو أصل العقيدة والشريعة.

واستطاع الشيخ الغزالي أن يستنبط من القرآن ما لا يستنبطه غيره.

فعندما كنت في الجزائر وبعض الإخوة من تلاميذ الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله يتكلمون عن فكرة الأستاذ مالك عن فكرة القابلية للاستعمار، قلت لهم: إن الشيخ الغزالي سبق إلى هذه الفكرة، قالوا: كيف وأين؟ قلت: في كتابه "الإسلام والأوضاع الاقتصادية" قال: إن الأمم تكون عندها استعدادات للفساد والاختلال، ويؤدي هذا الاختلال إلى الاحتلال، واستدل على ذلك بآيات سورة الإسراء عن بني إسرائيل حينما أفسدوا في الأرض أدى إلى إصابتهم بالاستعمار والطغيان استعمرهم البابليون والفرس والرومان.. الخ.

الأداة الثانية كانت الثقافة؛ فكان الشيخ الغزالي مثقفا ثقافة واسعة، وفي كتاب اسمه "ثقافة الداعية" ألفته من سنين طويلة ذكرت فيه أن الداعية محتاج إلى ستة أنواع من الثقافات: الثقافة الدينية، بمفرداتها المختلفة: تفسير وحديث وفقه وأصول وغير ذلك.

والثقافة الأدبية واللغوية، والشيخ الغزالي كان أديبا من أدباء الأمة. كما كان لدى الشيخ الغزالي ثقافة تاريخية؛ فكان معنيا بالتاريخ الإسلامي، وثقافة إنسانية عامة وثقافة علمية، هذا بالإضافة إلى ثقافة واقعية؛ فكان موصولا بالواقع وتيارات الحياة المختلفة، وكانت هذه الثقافة الواسعة هي زاده وأداته الثانية بعد كتاب الله عز وجل.

ولقد كتبت الأقدار على الشيخ أن يحارب في جبهتين واسعتين:

الأولى: جبهة الخصوم المتربصين بالإسلام، الكارهين لانتشار أنواره وعودته إلى قيادة الحياة، بعض هؤلاء من خارج الإسلام، وبعض آخر من داخل أرض الإسلام، ومن أبناء المسلمين أنفسهم، ولكنهم لا يضمرون للإسلام إلا ولا لشريعته إلا تنكرا..

والجبهة الأخرى: جبهة الأصدقاء الجهلة بالإسلام الذين يضرون الإسلام أبلغ الضرر من حيث يريدون أن ينفعوه؛ فيهشمون وجهه من حيث يظنون أنهم يدفعون ذبابة عنه، هؤلاء الذين سماهم الشيخ »الدعاة الفتانين« الذين يشغلون الناس بالفروع عن الأصول، وبالجزئيات عن الكليات، وبالمختلف فيه عن المتفق عليه، وبأعمال الجوارح عن أعمال القلوب.

إنه يشكو من دعاة لا يقرؤون ولا يعانون، مشدودين إلى جدليات الماضي السحيق، ولا يتطرقون لما جد حولنا ولا الطفرات الهائلة التي قفزت بها الحياة على أرضنا.

إنني لن أستطيع أن أوفي الشيخ الغزالي حقه في كلمات مهما كانت؛ فإننا أمام قائد كبير من قادة الفكر والتوجيه، وإمام من أئمة الفكر والدعوة والتجديد.. بل نحن أمام مدرسة متكاملة من مدارس الدعوة والفكر والإصلاح، لها طابعها وأسلوبها ولها مذاقها الخاص، وتحتاج إلى دراسات عديدة لإبراز خصائصها ومواقفها وآثارها؛ فليس الغزالي ملك نفسه ولا ملك جماعة أو حركة ولا ملك قطر أو شعب بل هو ملك الأمة الإسلامية جمعاء..