لقد نجح بعض الفتيان في قلب شجرة التعاليم الإسلامية فجعلوا الفروع الخفيفة جذوعها أو جذورا، وجعلوا الأصول المهمة أوراقا تتساقط مع الرياح!. وشرف الإسلام أنه يبني النفس على قاعدة «قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها» وأنه يربط الاستخلاف في الأرض بمبدأ «الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ****وأنا أتوجه إلى أمراء الجماعات الدينية الأكارم، والى الأوصياء الكبار على تراث السلف أن يراجعوا أنفسهم كي يهتموا بأمرين: أولهما: زيادة التدبر لآيات القرآن الكريم. وآخرهما: توثيق الروابط بين الأحاديث الشريفة ودلالات القرآن القريبة والبعيدة، فلن تقوم دراسة إسلامية مكتملة ومجدية إلا بالأمرين معا..

بصوت 17 قارئ

الأربعاء، 12 سبتمبر 2007

سلفية مزعومة عرفت من الإسلام قشوره ونسيت جذوره؟


وفي هذا الكتاب جرعة قد تكون مرة للفتيان الذين يتناولون كتب الأحاديث النبوية ثم يحسبون أنهم أحاطوا بالإسلام علما بعد قراءة عابرة أو عميقة.
ولعل فيه درسا لشيوخ يحاربون الفقه المذهبي لحساب سلفية مزعومة عرفت من الإسلام قشوره ونسيت جذوره؟.
وأوكد أولا وآخرا أنني مع القافلة الكبرى للإسلام، هذه القافلة التي يحدوها الخلفاء الراشدون والأئمة المتبوعون والعلماء الموثقون، خلفا بعد سلف، ولاحقا يدعو لسابق.. يدعو الله بصدق قائلا: «ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا. ربنا إنك رءوف رحيم»(2).

محمد الغزالي


وينظر المسلمون الى مسالك هؤلاء الفتية فينكرونها ويلعنونهم

...وقد كان علماء الأزهر القدامى أقدر الناس على علاج هذه الفتن، فهم يدرسون الإسلام دراسة تستوعب فكر السلف والخلف والأئمة الأربعة كما يدرسون ألوان التفسير والحديث وما تتضمن من أقوال وآراء..
لكن الأزهر من ثلاثين عاما أو تزيد ينحدر من الناحية العلمية والتوجيهية. ولذلك خلا الطريق لكل ناعق، وشرع أنصاف وأعشار المتعلمين يتصدرون القافلة ويثيرون الفتن بدل إطفائها.
وانتشر الفقه البدوي، والتصور الطفولي للعقائد والشرائع.
وقد حاولت في كتابي «دستور الوحدة الثقافية» أن أقف هذا الانحدار، بيد أن الأمر يحتاج الى جهود متضافرة وسياسة علمية محكمة...

يجيء دور التشريع في تحديد مسار الأمة العام، ومسالك الأفراد الخاصة، وعندنا في هذا من النصوص ما هو قطعي الثبوت والدلالة، وما هو ظني الثبوت والدلالة، وما هو قطعي الثبوت ظني الدلالة، وما هو ظني الثبوت قطعي الدلالة!.
واستفادة الأحكام من مصادرها لها علم خاص بها ولها رجال ثقات وعلى العامة أن تسمع وتطيع.
وقد رأيت في هذه الأيام من يسمى نفسه أمير جماعة، والجهد الذي يتصبب له عرقا وهو يقوم به، هو إشاعة النقاب بين النساء، أو إشاعة الجلباب بين الرجال، أو تحريم الذهب على النساء والرجال جميعا، أو ترك شعر اللحية ينمو فلا يؤخذ منه شيء حتى لقاء الله!!!.
أهذه غايات تتكون لها جماعات؟ والغريب أن الأحاديث الواهية والخلافات الفرعية لها حظوظ متناقضة أو طوالع سعد ونحس!! فلست تدري لماذا ع!شت هذه؟ ولماذا ماتت تلك..؟.
في مصر تحتفل العامة بلية النصف من شعبان وليست لهذه الليلة القيمة التي تعطيها هذا الشأن الرفيع، وفي حديث مع أحد الأخوة من علماء الخليج قال: إن للأحاديث الموضوعة والواهية سوقا رائجة عندكم! قلت: للأسف وعندكم كذلك!.
قال: نحن نتحرى الأحاديث التي نصدر وفقها أحكامنا! فضحكت وأنا أرد عليه بإجابة سريعة:
أظن الأحاديث التي وردت في ليلة النصف أقوى من الأحاديث التي وردت في تحريم الغناء!.
أجاب مستنكرا: هذا غير صحيح! إن تحريم الغناء وآلاته ثابت في السنة النبوية...
قلت له: تعال نقرأ سويا ما قاله ابن حزم في ذلك الموضوع، ثم انظر ما تفعل...
قال ابن حزم: «وبيع الشطرنج والمزامير والعيدان والمعازف والطنابير حلال كله ومن كسر شيئا من ذلك ضمنه، إلا أن يكون صورة مصورة ـ تمثالا مجسما ـ فلا ضمان على كاسرها، وتضمين المعتدي على هذه الأشياء واجب، لأنها مال من مال مالكها».
قال: «وكذلك يجوز بيع المغنيات ـ من الجواري ـ وابتياعهن! وأساس الجواز في كل ما ذكرنا قوله تعالى: «خلق لكم ما في الأرض جميعا»(44) وقوله: «وأحل الله البيع»(45)، وقوله: «وقد فصل لكم ما حرم عليكم»(46) ـ يعني أن الأصل في الأشياء الإباحة، وأنه لا تحريم إلا بنص، وقد فصل الله ما حرم في كتابه وعلى لسان نبيه، ولم يأت نص بتحريم شيء مما ذكره من البيوع السابقة» ثم ذكر ابن حزم أن أبا حنيفة يوجب الضمان على من كسر شيئا من آلات اللهو التي سماها آنفا!
قال: «واحتج المانعون بآثار لا تصح، أو يصح بعضها ولا حجة لهم فيها.. منها عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها ـ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: «إن الله حرم المغنية وبيعها وثمنها وتعليمها والاستماع إليها» قال ابن حزم وهو يناقش سند هذا الحديث: «فيه من الرواة» ليث وهو ضعيف، وسعيد بن أبي رزين، وهو مجهول لا يدري من هو؟ عن أخيه؟ وما أدراك ما عن أخيه! هو ما يعرف وقد سمى فكيف أخوه الذي لم يسم؟.
وعن علي بن أبي طالب قال رسول الله: إذا عملت أمتي خمس عشرة خصلة حل بها البلاء...
منهن «واتخذوا القينات والمعازف، فليتوقعوا عند ذلك ريحا حمراء ومسخا وخسفا».
قال ابن حزم في رواة هذا الحديث: لاحق بن الحسين وضرار بن علي والمحمصي مجهولون. وفرج ابن فضالة متروك...
وعن معاوية قال: «نهى رسول الله عن تسع، وأنا أنهاكم عنهن الآن، فذكر فيهن الغناء والنوح» قال ابن حزم: في رواته محمد بن المهاجر ضعيف، وكيسان مجهول!.
وروى أبو داود بسنده عن شيخ(!) عن ابن مسعود يقول: سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: «إن الغناء ينبت النفاق في القلب»!.
يقول ابن حزم: الرواية عن شيخ عجب جدا! من هذا الشيخ؟.
وعن أبي مالك الأشعري أنه سمع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: «يشرب ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها، يضرب على رؤوسهم بالمعازف، والقينات يخسف الله بهم الأرض».
قال ابن حزم وهو يناقش السند: معاوية بن صالح ضعيف، وليس فيه أن الوعيد المذكور إنما هو على المعازف، كما أنه ليس على اتخاذ القينات، والظاهر أنه على استحلالهم الخمر، والديانة لا تؤخذ بالظن.
وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله: «من جلس الى قينة فسمع منها صب الله في أذنيه الآنك يوم القيامة» والآنك هو الرصاص المذاب.
قال ابن حزم: هذا حديث موضوع فضيحة، ما عرف قط عن طريق أنس!!.
وعن مكحول عن عائشة قالت: قال رسول الله: «من مات وعنده جارية مغنية فلا تصلوا عليه»..
قال ابن حزم: مكحول لم يلق عائشة، وهاشم وعمر الراويان مجاهيل!


...
كنت مع رفقة طيبة نتغدى في فندق محافظ بحي «الهرم» ووصل الى أسماعنا صوت جذب انتباهي، وألقيت إليه زمامي، كأنه صوت ناصح حزين يقاوم المجون والاسترخاء..
وأخذت أتبين الألفاظ التي تصدر من مسجل موضوع بإحدى الزوايا، فإذا هي للبوصيري أو بتعبير أدق تشطير لأبيات من البردة، كان البوصيري والشاعر الآخر يدوران فيها حول البيت المشهور في وصف الرسول الكريم

كأنه ـ وهو فرد ـ من جلالته في عسكر حين تلقاه وهو حشم!
لم تكن هناك ألحان مصاحبة تثير المشاعر، كان صوت المبتهل الشادي مزيحا من إيمان وحب جعلاني أطوي العصور
القهقهري، وأمثل في حضرة صاحب الرسالة، وهو في مجلسه الروحي يوجه ويربي، ويخلق الجيل الذي سينشئ حضارة أرقى وأتقى، ويلقي بذور الإنسانية الجديدة التي ستنقذ العالم من جبروت الرومان والفرس...
كان فردا يجلس كما يجلس العبد ويأكل كما يأكل العبد ولكن الأشعة المنبثقة من أركانه تجعل الأبصار تنحسر عنه، وتعجل الأباطرة والقياصرة يجثون عند قدميه..!
إن الغناء الرقيق المتواضع الذي سمعته لا يزال يؤثر في نفسي كلما استحضرت جرسه، بعد ما صار ذكرى..
قال الإمام الشاطبي في الجزء الأول من كتابه «الاعتصام»: إن قوما أتوا عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقالوا: يا أمير المؤمنين إن لنا إماما إذا فرغ من صلاته تغنى!!.
فقال عمر: من هو؟ فذكروا له الرجل، فقال: قوموا بنا إليه، فإنا إن وجهنا إليه ـ من يحضره ـ يظننا تجسسنا عليه أمره.
وقام عمر مع جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، حتى أتوا الرجل وهو في المسجد، فلما نظر الى عمر قام إليه واستقبله قائلا: يا أمير المؤمنين ما حاجتك؟ وما جاء بك؟.
إذا كانت الحاجة لنا كنا أحق بذلك منك أن نأتيك، وإن كانت الحاجة لك فأحق من عظمناه خليفة رسول الله!. فقال له عمر ويحك بلغني عنك أمر ساءني! فقال: وما هو يا أمير المؤمنين؟ قال: أتتمجن في عبادتك ـ من المجانة والاتضاع ـ؟ قال: لا يا أمير المؤمنين، لكنها عظة أعظ بها نفسي!.
قال عمر: قلها، فإن كانت كلاما حسنا، قلته معك، وإن كان قبيحا نهيتك عنه... فأنشد الرجل هذه الأبيات:
وفؤاد كلما عاتبته في مدى الهجران يبغي تعبي!
لا أراه الدهر إلا لاهيا في تماديه، فقد برح بي
يا قرين السوء ما هذا الصبا؟ فنى العمر كذا في اللعب!
وشبابي بان عني فمضى قبل أن أقضي مني أربي
ما أرجى بعده إلا الفنا ضيق الشيب علي مطلبي

ويح نفسي لا أراها أبدا في جميل، لا ولا في أدب
نفسي لا كنت ولا كان الهوى راقبي المولى، وخافي، وارهبي


فقال عمر رضي الله عنه مرددا البيت الأخير:


نفسي لا كنت، ولا كان الهوى راقبي المولى وخافي، وارهبي!
ثم قال عمر: على هذا فليغن من غنى...!.
أول: ولنا في أمير المؤمنين أسوة حسن! كل إنشاد يبعث على السمو والجد والاستقامة فهو غناء حسن، وما أحسب أحد يرى نفسه أتقى لله

من عمر! أو يتنزه مما أقره ودعا إليه.
وعندما اسمع قول شوقي
ويا رب هل تغني عن العبد حجة؟ وفي العمر ما فيه من الهفوات!
أتذكر فضل الله في جعل الحج توبة كاملة! لكن صوت المغنية الضارعة يحرك أشجان الأخطاء القديمة، كما يحرك الآمال في عفو اله، وهذا كله لون من العبودية المطلوبة لله سبحانه.
وكما ينشد المرء الخلاص من ماض مرهق.. ينطلق الشعر والغناء الى استنقاذ الأمة الإسلامية من حاضر مؤسف، مع مناجاة صادقة لرسول عليه الصلاة والسلام..
شعوبك في شرق البلاد وغربها كأصحاب كهف في عميق سبات

بأيمانهم نوران ذكر وسنة فما بالهم في حالك الظلمات؟

ليست هناك تعليقات: